بديعة مصابني.. أفلس بسببها الملايين
كتب جمال ابراهيم موقع السلطةمشاهدها المأساوية جميع الصور، أصاب ركودها الأسواق فساءت أحوال التجارة، وأغلقت المحلات، وأفلس بسببها الملايين، إلا أن الحال مع الحرب العالمية الثانية كان مختلفا فى مملكة الرقص الشرقى فى مصر، حيث اكتظت كباريهات وصالات الرقص بالقاهرة بالجنود الإنجليز وحلفائهم للسهر والمتعة بعيدا عن جو الحرب، لتصبح فترة الحرب، رغم سوداويتها، الفترة الأكثر ازدهارا لمملكة الرقص الشرقى فى مصر التى كانت تجلس على عرشها فى ذلك الوقت ملكة عماد الدين بديعة مصابني.
ولعل الألقاب العديدة التى كانت تطلق على بديعة فى ذلك الوقت مثل «سيدة الليل»، «ملكة عمادالدين»، «أسطورة الرقص الشرقي»، «بدعدع» من قبل محبيها ومعجبيها، عكست مدى ما كانت تتمتع به من شهرة آنذاك وبالتحديد فى عالم الليل ومسارحه الراقصة بالقاهرة فى الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي.
وقد اختلف الكثيرون حول بديعة فمنهم من اعتبرها أسطورة ورمزا لفن الاستعراض والرقص الشرقى فى مصر والعالم العربى ومنهم من رآها صورة لما كان عليه المجون والخلاعة واللهو فى ليالى القاهرة خاصة خلال فترة الحرب العالمية الثانية، لكنهم ورغم اختلافهم حول صورتها الأخلاقية، اتفقوا جميعا على تمتعها بموهبة فنية غنائية راقصة، جعلت منها الراقصة الأشهر فى مصر والعالم العربى فى القرن العشرين.
وقد خاضت بديعة مصابنى رحلة مضنية لتصل إلى عرش الرقص الشرقى بمصر، بعد أن نجحت فى الانضمام إلى فرقة جورج أبيض، ومنذ اليوم الأول الذى عملت فيه برزت وجذبت إليها الأنظار بمواهبها المتعددة، وكان من بين نجوم الفن آنذاك الشيخ أحمد الشامى الذى كان يبحث عن بطلة تتمتع بهذه المواهب كلها وما إن سمع عن بديعة وموهبتها المتفردة سعى لضمها إلى فرقته وأسند إليها أدوار البطولة مقابل راتب شهرى كبير.
وقد جاءت نقطة انطلاق بديعة الحقيقية نحو الشهرة والمجد بلقائها مع الثنائى نجيب الريحانى وبديع خيرى وانضمامها إلى فرقة الريحانى الفنية، حيث كان مسرح الريحانى ملتقى لجمهور من طبقة الموظفين والشوام المهاجرين والتجار المستورين، لتجد بديعة نفسها فى بؤرة الشهرة والأضواء، وقد ساعدتها سماتها الشخصية والأنثوية وما تمتلكه من أنوثة ودلال وقدرة على الرقص والغناء وإضفاء الجاذبية على تحقيق تركيبة عجيبة ونادرة فى بيئة محافظة مثل مصر فى ذلك الوقت. وظلت بديعة مرتبطة بعالم الريحانى وتوجت علاقتهما بالزواج فى سبتمبر 1924، ولكن بالرغم من قصة الحب القوية التى ربطت بينهما بديعة والريحانى إلا أن الحياة بينهما لم يقدر لها الاستمرار، وقيل إن الغيرة بين الاثنين والتنافس الفنى فى طريق الشهرة والنجومية كانا السبب فى انفصالهما.
وقد استطاعت بديعة بموهبتها الفنية وقدراتها الخاصة فى مجال الحسابات والتجارة أن تجعل من «كازينو بديعة» مؤسسة اقتصادية متكاملة لها وزنها فى صناعة الفن فى مصر والنجوم من مطربين وملحنين وراقصات كتبوا تاريخ مصر الفنى والسينمائى سنوات طويلة بعد ذلك من أمثال محمد عبدالمطلب وإبراهيم حمودة من المطربين و نادرة ولوردكاش من المطربات وفريد الأطرش ومحمود الشريف ومحمد فوزى من الملحنين والمطربين وثريا حلمى وإسماعيل ياسين ومحمود شكوكو من المنولوجستات وحكمت فهمى وأمينة محمد وحورية محمد وببا عزالدين وتحية كاريوكا وجمالات حسن وهاجر حمدى وسامية جمال وغيرهم ممن تخرجوا من مدرسة بديعة الفنية، حتى إن بديعة ذكرت فى أحد أحاديثها الإذاعية أن الموسيقار الراحل «محمد عبدالوهاب» عمل لديها فى صالتها وكان يقدم حفلات غنائية جمهورها من النساء فقط وهو ما كان يطلق عليه فى ذلك الوقت «ماتينيهات حريمي».
ومع بداية الحرب العالمية الثانية تحول كازينو بديعة من مسرح يرتاده الكبار من صفوة المجتمع والساسة فى مصر قبيل قيام الحرب العالمية الثانية، إلى مجرد ملهى ليلي، مسخر للترفيه عن الجنود البريطانيين المتواجدين فى مصر خلال تلك الفترة، وأقامت بديعة خلال تلك الفترة صداقات مع جنود وقيادات بريطانية عسكرية فى مصر وهو ما ساعدها حين اضطرت للهروب من مصر لاحقا.
والطريف فى الأمر أن كازينو بديعة كما كان مصنعا لنجوم الفن والتمثيل والرقص والغناء فى ذلك الوقت فإن هذا المسرح قدم أيضا ثلاث راقصات ارتبط اسمهن بعالم السياسة فى عدد من القضايا أولاهن حكمت فهمى التى قامت قبل نشوب الحرب العالمية برحلة لإيطاليا وألمانيا والمجر ورقصت أمام هتلر وموسولينى وتعرفت على شاب ألمانى أمّه مصرية اسمه حسين جعفر وكان جاسوسا لألمانيا فتعرف بدوره على أنور السادات والفريق عزيز المصرى وعرفت عوامة حكمت فهمى اجتماعات هؤلاء الذين كانوا يرغبون فى الاتصال بالألمان من أجل طرد الانجليز من مصر إلا أنهم وقعوا فى يد المخابرات البريطانية فصدر حكم ضد الراقصة حكمت فهمى بالسجن لمدة 30 شهرا وطرد السادات من الخدمة العسكرية.
وثانية الراقصات اللاتى تخرجن فى مسرح بديعة وارتبطن بالسياسة كانت سامية جمال والتى وضعها الإيطالى أنطوان بوللى أحد أفراد حاشية الملك فاروق فى طريق الملك فبدأت ترقص له، وقد ذكر مصطفى أمين فى كتابه «ليالى فاروق» بعنوان «ملكة لليلة واحدة» أن سامية جمال أمضت ليلة فى غرفة الملك واستيقظت فلم تجده فقد اختفى من دون أن يودعها بعد أن أمضى الساعات وهو راكع تحت قدميها يبثها غرامه، وبحثت عنه فى كل مكان قد تجده فيه ولكنه كان يتجاهلها، وبسبب حبها لفاروق أنهت علاقتها بفريد الأطرش.
أما الراقصة الثالثة فهى تحية كاريوكا التى عملت مع بديعة مصابنى وكان عمرها 12عاماً وكانت أقرب الراقصات الى قلبها وعقلها، وهى أول راقصة شرقية تسجن ثلاثة أشهر عام 1953 بسبب نقدها العلنى لتقاعس الضباط الأحرار عن إعادة الحياة الدستورية الى مصر.
وعلى العكس من الجميع، الذى منحتهم نهاية الحرب العالمية الثانية أملا وبداية جديدة، فقد بدأ مجرى الأحداث فى حياة بديعة مصابني، مع نهاية الحرب العالمية الثانية، يتحول بطريقة دراماتيكية فما إن انتهت الحرب حتى رحل رواد مسرح بديعة من الجنود الإنجليز وحلفائهم عائدين إلى أوطانهم وحاولت بديعة العودة، واستعادة مجدها المسرحى مرة أخرى إلا أن معظم المواهب التى كانت تشكل أركان مسرح بديعة من قبل كانت قد ذهبت وانخرطت فى مجال السينما ليخسر بذلك مسرح بديعة الاستعراضى هؤلاء النجوم السينمائيين إليها.