سناء جميل.. «الزوجة الثانية» للعمدة
كتب محمد شوقيسناء جميل، ليست ممثلة عبقرية فحسب، ولكنها حالة فنية مليئة بالصدق، كائن إنساني يفيض بالمشاعرابنة الصعيد ثريا يوسف عطا الله، من يمكن أن ينسى «نفيسة» في «بداية ونهاية» وقدرتها المذهلة على ترجمة مشاعر الشخصية بفهم واعٍ، تحولت معها من مجرد حروف منقوشة على الورق إلى لحم ودم ومشاعر فياضة، ما دفع مؤلفها أديب نوبل الراحل نجيب محفوظ إلى التصريح بأن سناء جميل أعادت خلق الشخصية على الشاشة وبصورة تحاكي بل تفوق ما كان في خياله وهو يكتبها.
ربما هذا التميز جعلها تقترب من الفوز بجائزة التمثيل الأولى في «مهرجان موسكو» عام 1960، قبل أن يكتفي الأخير بمنحها جائزته الثانية، وهو أيضاً ما دفع عميد الأدب العربي طه حسين إلى أن يكتب عنها مقالاً نشره في جريدة «الجمهورية» عام 1956 أثنى فيه على موهبتها وقدرتها على تفهّم الشخصية، وكانت آنذاك وجهاً جديداً.
هى أيضاً «حفيظة» في فيلم «الزوجة الثانية»، واحدة من روائع أبو الواقعية الراحل صلاح أبو سيف، وهو العمل الذي أثبتت من خلاله جميل مجدداً قدرتها المذهلة على تفهّم أبعاد الشخصية، وقدرتها على ترجمة مشاعر الزوجة العاقر الغيور على زوجها، وهي تراه يلهث وراء أخرى وافقت قهراً أن تشاركها فيه، وكيف تنقلت ببساطة بين التراجيديا والكوميديا بسلاسة لا تملكها غير ملكة الإحساس سناء جميل.
أو «فضة المعداوي»، الدور الأثير الذي منحته سناء من مشاعرها الكثير، وأضفت عليه تألقاً خاصاً، فلم تسقط في فخ المبالغة أو الركض خلف «إفيه» لتظلّ أفضل شخصية درامية نسجها الراحل أسامة أنور عكاشة وبشهادته هو شخصياً، مشيراً إلى أن سناء منحت فضة حياة فاقت تصوراته كافة على الورق.
كانت سناء جميل علمت بشأن معهد التمثيل من خلال ابن الجيران الذي ساعدها على تقديم أوراقها بعدما أخبرته عن نشاطها المسرحي في المدرسة، ومدى حبها للتمثيل، فيما ساعدتها والدته مرات عدة في تغطية فترات غيابها من المنزل أثناء دراستها في المعهد، ولولا اختيارها من أستاذها زكي طليمات للانضمام إلى فرقة «المسرح الحديث» التي أسسها من بين طلبة المعهد وطالباته، واضطرارها إلى التغيب فترات طويلة عن المنزل أو التأخير ليلاً بسبب التمارين والعروض، لربما نجحت في إتمام دراستها بهدوء ومن دون علم شقيقها الذي طردها فور اكتشافه الأمر، إذ افتضح أمرها وعرف الأخ المأساة التي حلت به بسبب خروج أخته على تقاليد العائلة المقدسة، ومجتمع الصعيد المحافظ.
كانت «علقة موت»، كما وصفتها سناء جميل لاحقاً، ما زاد من إصرارها وتحديها، فاستجمعت ما تبقى من شجاعتها وراحت تمسح دموعها، وفي هدوء وتحدٍ أخبرت شقيقها بأنها لن تتخلّى عن دراستها في المعهد، لأنها ترى في التمثيل مستقبلها الذي ستواصل العمل به. لم يناقشها، وكأنه لم يسمع ما قالته أصلاً، فعادت تكرّر على مسمعيها الكلام نفسه.
خرجت سناء من بيت شقيقها، آخر من تبقى من عائلتها الصغيرة بعد رحيل والديها، من دون أن تتمهّل للحظات كي تفكر في المجهول الذي ينتظرها. كان قرارها حاسماً وقاطعاً وبلا رجعة. ظلّت تمشي في الشوارع بلا هدف فيما مشاعر الخوف كانت تتسلّل إلى قلبها وروحها رغماً عنها، وهي مشاعر ظلت رفيقة سناء سنوات طويلة.
لم تستطع سناء رغم كل ما حققته من نجاح وتميز نسيان ما حدث، وفداحة الثمن الذي دفعته، لم تكن تتمالك دموعها إذا ما استعادت تلك اللحظات البائسة، فكانت دوماً تشعر بالخوف وكأنه شبح يطاردها وينثر القلق في داخلها، وهو ما اعترفت به في حوار تلفزيوني سجله معها الكاتب الصحافي مفيد فوزي، أكدت خلاله «ملكة الإحساس» أن شبح الخوف ولد معها يوم خرجت من بيت أهلها طريدة في عز الليل بعدما رفضت الطلب القاطع بطلاق الفن وصممت على استكمال المشوار.
ووفقاً لاعترافاتها، أنها لم تشعر بقسوة آلام الوحدة إلا في تلك اللحظات التي ودّعت فيها منزل شقيقها وإلى الأبد، والغريب أنها لم تشعر بهذا الإحساس وهي تعيش في القسم الداخلي في مدرسة الراهبات «المير دي ديو المدرسة التي أودعها فيها شقيقها بعدما فقدت والديها واضطرتها الظروف إلى أن ترحل عن مسقط رأسها مدينة «ملوي» في محافظة المنيا عروس صعيد مصر، حيث كان والدها يعمل محامياً في المحاكم المختلطة التي ألغيت عام 1936، ولم يمهله القدر للبحث عن عمل آخر، كانت قادرة دوماً على التواؤم مع هذا الوضع، فاعتبرت المدرسة بيتها الذي تأنس بجدرانه وشعرت داخله بالأمان والطمأنينة. لم تعتبر وجودها تحت سقف المدرسة «وضعاً مؤقتاً»، بل كان بيتها الذي لا تعرف غيره، والراهبات كنّ أمهاتها. أما زميلاتها في المدرسة فكنّ شقيقاتها.
ساعدها على ذلك صغر سنها، خصوصاً في تلك الفترة التي دخلت فيها المدرسة، إذ كانت غير ملمّة بحقيقة ما حدث لوالديها، ولا سر تواجدها على هذا النحو وطوال هذه السنوات، فهي لم تفارق المدرسة إلا في إجازات قصيرة أمضتها في منزل شقيقها قبل أن تضطرها الظروف إلى الإقامة الدائمة معه بعد انتهاء دراستها وحصولها على «الباشو» أو التوجيهية.
ضربت الفنانة سناء جميل مثلاً في الوطنية حينما رفضت عرضاً يسيل له اللعاب من التلفزيون الإسرائيلي، لشراء قصة حياتها وعرضها على القنوات الإسرائيلية المختلفة وتسويقها لمحطات أخرى عالمية. كذلك رفضت إجراء أية أحاديث صحافية لصحف ومجلات إسرائيلية. وفي الوقت نفسه، سافرت عام 1969 إلى عمان للمشاركة في بطولة فيلم «فداك يا فلسطين» إلى جانب أبطال المقاومة الفلسطينية.
سناء كانت تقول دومًا أن لها شقيقة توأم رحلت مع عائلتها عندما تركوها وهاجروا إلى الخارج، وتمنت كثيرًا أن تلقاها في يوم من الأيام وهو ما لم يحدث حتى وفاتها.
شقيقة الفنانة الراحلة لم تكن الوحيدة التي اختفت بل جميع أفراد أسرتها، وبقيت وحيدة مع زوجها الصحفي القدير لويس جريس، الذي أخذ يبحث كثيرًا عن أقاربها للمشاركة في مراسم دفنها دون جدوى.
جريس رفض دفن زوجته مباشرةً بعد وفاتها ونشر إعلان الوفاة في كل الصحف المصرية والأجنبية حتى يظهر أحدهم، والحقيقة أن الوفاة لم تحدث يوم 22 سبتمبر 2002 وإنما حدثت قبل هذا التاريخ بثلاثة أيام وهذا يعني أنها دُفنت في اليوم الرابع بعد موتها «كان عندي أمل أن هناك من سيحضر من أهلها لوداعها قبل أن ترقد في مكانها الأخير».